السؤال عن العمل المُقتضي لمحبة الله ولمحبة الناس:
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبَّني الله، وأحبَّني
الناس، فقال: ((ازهد في الدنيا يحبَّكَ اللهُ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبَّكَ الناسُ))؛
[أخرجه ابن ماجه].
هذا الحديث كما ذكر أهل العلم أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار
الإسلام وهي:
حديث: ((إنما الأعمال بالنيَّات))، وحديث: ((الحلال بيِّن والحرام
بيِّن))، وحديث: ((من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه))، وهذا الحديث: ((ازهد
في الدنيا يحبَّك الله)).
قال الإمام ابن العطَّار الشافعي رحمه الله: أما كون الزهد في الدنيا
سببًا لمحبَّة الله تعالى، فلأن الزاهد في الدنيا غالبًا يكون راغبًا في الآخرة، ومتى
كان راغبًا في الآخرة عمل بأعمال أهلها، فأحبَّه الله تعالى، وأما كون الزهد فيما عند
الناس سببًا لمحبَّتهم، فلأن الدنيا خضرة حلوة معشوقة لبنيها، فمتى زهد فيما عندهم،
وترك محبوبهم، ولم يزاحمهم فيه، أحبُّوه، والله أعلم.
في الحديث الترغيب في الزهد في الدنيا، وأنه من أسباب محبَّة الله
جلَّ جلالُه للعَبْد، وفيه الترغيب في الزُّهْد فيما في أيدي الناس، وأنه مقتضٍ لمحبَّة
الناس.
والمراد بالزهد في الشيء: الرغبة عنه، والإعراض عنه، لارتفاع الهِمَّة
عنه.
وقد تنوَّعت عبارات السَّلَف في تفسير الزهد؛ قال الإمام النووي
رحمه الله: "فسَّرَ الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء، كلها من أعمال القلوب، لا من
أعمال الجوارح".
أحدها: أن يكون العَبْدُ بما في يد الله، أوثق منه بما في يد نفسه،
وهذا ينشأُ من صحَّة اليقين وقوَّته، فإن الله ضمن أرزاق عباده، وتكفَّل بها؛ كما قال:
﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6].
والثاني: أن يكون العَبْدُ إذا أُصيب بمصيبةٍ في دُنْياهُ، من ذَهاب
مالٍ، أو ولدٍ، أو غير ذلك، أرْغَبَ في ثواب ذلك، مما ذهب منه في الدنيا أن يبقى له،
وهذا أيضًا ينشأ من كمال اليقين، وهو من علامات الزهد في الدنيا، وقلة الرغبة فيها،
قال عليٌّ رضي الله عنه: من زهد في الدنيا، هانت عليه المُصيبات.
والثالث: أن يستوي عند العبد حامدُه وذامُّه في الحق، وهذا من علامات
الزهد في الدنيا، واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، فإن من عظُمت الدنيا عنده أحَبَّ المدْحَ
وكرِه الذمَّ، ومن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحق، دلَّ على سقوط منزلة المخلوقين
من قلبه، وامتلائه من محبَّة الحقِّ، وما فيه رضى مولاه.
وقد روي عن السلف عبارات أُخَر في تفسير الزهد في الدنيا، كُلُّها
ترجِعُ إلى ما تقدَّم، وعلى كل حالٍ، فالزهد في الدنيا شعارُ أنبياء الله، وأوليائه،
وأحبَّائه.
والزهد فيما في أيدي الناس موجِبٌ لمحبَّة النفس؛ قال الحسن:
"لا تزال كريمًا على الناس - أو لا يزال الناس يكرمونك - ما لم تعاط ما في أيديهم،
فإذا فعلت ذلك، استخفُّوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك".
قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال:
بمَ سادَهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دُنياهم.
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: أعظم الواجبات الزهد في الشرك، ثم
الزهد في المعاصي، ومن أنواع الزهد أن يخلص العبد قلبه لله عز وجل، وأن يخلص عمله لله
بحيث يكون العَبْدُ مُريدًا بأعماله وأقواله كلها إرضاء رب العزة والجلال، أما من قصد
الدنيا فقط، فإنه سيستمتع بطيِّبات الدنيا إن قدرها الله له، ومن ثم يذهب أجره، ولا
يبقى له شيء؛ ولذلك عاب الله على قوم، فقال لهم: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي
حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ [الأحقاف: 20].
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: الزهد ليس معناه
الفقر، وليس معناه ترك المال؛ وإنما الزهد حقيقة في القلب بتعلُّقه بالآخرة، وتجانبه
وابتعاده عن الدنيا، من حيث التعلُّق، فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده، وليست
في قلبه، فيُخلص قصده ونيَّته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعًا له في الآخرة، فإذا
عامل - مثلًا- بالبيع والشراء، فإنه يستعين به على الحقِّ، وعلى ما ينفعه في الآخرة،
وسُئِل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدًا؟ قال: نعم، بشرط ألَّا
يفرح إذ زادَتْ، ولا يحزن إذا نقصت.
وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس في هذه
الأُمَّة، فظنُّوا أن الزهادة: الإعراض عن المال، والإعراض عما يحصل للمرء به نفْعُ
في الآخرة، وسُئل الحسن، فقيل له: من الزاهد؟ قال: الزاهد الذي إذا رأى أحدًا قال:
هذا خيرٌ مني.
وهذا من عظيم المعاني، وهذا أنه غير متعلِّق بالدنيا، مُزْدَرٍ نفسه
في جنب الله عز وجل، غير مترفِّع على الخَلْق، وهذا إنما يحصل لمن منَّ الله عليه فعمر
قلبُه بالرغبة في الآخرة، وبالبُعْد عن التعلُّق بالدنيا.
فهذه الوصية العظيمة لا شك أننا بحاجة إليها، خاصة في هذا الزمن
الذي صار أكثر الخَلْق معلَّقين بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبَّة
للدنيا، وهذا مما يضعف قلب المرء في تعلُّقه بالآخرة، وتعلُّقه بما يحبُّ الله جل جلاله
ويرضى، فعظَّمُوا الآخرة وقلَّلُوا من شأن الدنيا، فبذلك يكون الزهد الحقيقي، والإقبال
على الآخرة، والتجانُف عن دار الغرور.
السؤال عن الأعمال التي تدخل الجنة:
الصحابة رضي الله عنهم كانت همَّتُهم عالية، ومطالبهم عالية، فكانوا
يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعمال التي تُدخِلهم الجنة، وتُباعِدهم من
النار.
عن معاذ رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يُدخِلني
الجنة، ويُباعِدني عن النار، قال: ((لقد سألت عن عظيم، وإنَّه ليسيرٌ على مَنْ يَسَّرَه
الله عليه، تعبُد الله لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصُومُ،
وتحجُّ البيت))؛ [أخرجه الترمذي وأحمد].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد سألت
عن عظيم)) ذلك أن دخول الجنة، والنجاة من النار أمرٌ عظيمٌ جدًّا، ولأجله أنزل الله
الكتب، وأرسل الرسل، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنه ليَسيرٌ على مَنْ يَسَّرَه الله
عليه)) إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عزَّ وجلَّ، فمن يسَّرَ الله عليه الهداية
اهتدى، ومن لم يُيسِّر عليه لم يتيسَّر له ذلك.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقلتُ: مُرْني بعملٍ يُدخِلني الجنة، قال: ((عليك بالصيام، فإنه لا عدل
له))، ثم أتيتُه الثانية، فقال: ((عليك بالصيام))؛ [أخرجه أحمد]، قال الشيخ أحمد عبدالرحمن
البنا الساعاتي رحمه الله شارح مسند الإمام أحمد: في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي
أمامة في المرة الثانية: ((عليك بالصيام)) دلالة على أنه لم يجد له أفضل منه، وقد رواه
ابنُ حِبَّان في صحيحه بلفظ قلت: يا رسول الله، دلَّني على عمل أدخل به الجنة، قال:
((عليك بالصوم فإنه لا مثل له))، قال: وكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهارًا
إلا إذا نزل بهم ضيف.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله،
أخبرني بعمل يُدخِلني الجنة، ويُباعدني من النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((تعبُد الله لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتُقِيمُ الصلاة، وتُؤتي الزكاة وتَصِلُ الرَّحِم))؛
[متفق عليه]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ولا شكَّ أن كل إنسان يسعى
إلى هذا الكسب العظيم، أن ينجو من النار ويدخل الجنة، فإن من زُحزِح عن النار وأُدخِل
الجنة فقد فاز، وكل مسلم يسعى إلى ذلك، وهذا يحصل بهذه الأمور الأربعة:
الأول: تعبد الله لا تُشْرِك به شيئًا، لا شركًا أصغر، ولا شِركًا
أكبر.
والثاني: تقيم الصلاة، وتأتي بها كاملة في أوقاتها مع الجماعة إن
كنت رجلًا، ودون الجماعة إن كانت امرأة.
والثالث: تؤتي الزكاة، بأن تُؤدِّي ما أوجَبَ الله عليك من الزكاة
في مالك لمستحقِّه.
والرابع: تصل الرَّحِم، بأن تُؤتيهم حقَّهم بالصِّلَة حسب ما يتعارف
الناس، فما عَدَّه الناس صِلةً فهو صِلةٌ، وما لم يعدُّوه صِلةً فليس بصِلةٍ، إلا إذا
كان الإنسان في مجتمع لا يُبالون بالقَرابات، ولا يهتمُّون بها، فالعبرة بالصِّلة نفسها
المعتبرة شرعًا.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: أن رجلًا سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقال: أرأيتَ إذا صلَّيْتُ المكتُوبات وصُمْتُ رمضانَ، وأحلَلْتُ الحلالَ،
وحرَّمْتُ الحرامَ، ولم أزِدْ على ذلك شيئًا، أأدخُلُ الجنة؟ قال: ((نعم))؛ [أخرجه
مسلم].
قال الإمام ابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله: هذا الحديث
أصْلٌ عظيمٌ من أصول الدين، وقاعدةٌ من قواعده، فإن من وُفِّق للقيام بالمفروضات، واجتناب
المحرَّمات، واعتقاد حِلِّ المباحات، فقد حسنت له الحالات، وعلت له الدرجات في الجنان،
وذلك بفضل الله تعالى وكرمه من خالق الأرض والسماوات، والله أعلم.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في قوله صلى الله
عليه وسلم: ((أحللت الحلال وحرمت الحرام)) دليل على أنه لا بد من اعتقاد الحل فيما
هو حلال، واعتقاد التحريم فيما هو حرام، وهذا أمر زائد على الفعل فيما يحلُّ، وعلى
التَّرْك فيما يحرُم؛ لأن من فعل ما يحلُّ لا باعتقاد الحل، فإنه نقص عليه عقيدة، وهي
عقيدة الحكم الشرعي في هذا الذي فعله، وكذلك من تجنَّب الحرام دون اعتقاد تحريمه، فقد
نقص عليه العقيدة في حُكم هذا الشيء.
وقال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: الروايات التي فيها
ترتيب دخول الجنة على بعض الأعمال الصالحة، المقصود بها: أنها إذا فعلت مع اجتماع الشروط،
وانتفاء الموانع، أو إذا فُعلت هذه الأفعال مع الإتيان بالتوحيد، وهذان احتمالان:
الأول: أنها مع اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.
الثاني: أنها مع الإتيان بالتوحيد؛ لأنه به تصحُّ الصلاة، وتُقبَل
الزكاة، ويصحُّ الصيام، إلى آخره.
وقال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: في هذا الحديث من الفوائد حرص الصحابة
رضوان الله عليهم على ما ينفعهم وسؤالهم عن الأمور المهمة، وأن الصحابة اهتمُّوا بشأن
الجنة، ورغبوا في تحصيلها، وذلك لعِظَم ما في الجنة من النعيم، وفيه أن الجنة مطلبٌ
صحيحٌ، وأنه يجوز للإنسان أن يعمل الطاعات والقربات والعبادات من أجل أن يدخله الله
عز وجل الجنة، ولا يصحُّ أن يُقال: إن هذا مراد العامة أما الخاصة فإن مُرادَهم محبَّة
الله؛ لأن ذلك يخالف طريقة القرآن وهديه، ويخالف طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.
السؤال عن أحبِّ الأعمال إلى الله:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم:
أيُّ العمل أحَبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاةُ على وَقْتِها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((بِرُّ
الوالدين))، قُلْتُ: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))؛ [متفق عليه]، وفي رواية:
أي العمل أفضل؟ وفي رواية: أي الأعمال أقرَبُ إلى الجنة؟
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الحديث:
محبة الله تعالى للصلاة على وقتها، وبضدِّه: كراهة الله تعالى للصلاة على غير وقْتِها؛
لكن من نعمة الله أن أباح للعبد أن يُصلِّي في آخر الوقت، فإن صلَّى بعده، فالصواب
أن الصلاة غير مقبولة، إلا أن يكون هناك عُذْرٌ، كما بيَّنَتْه السُّنَّة أن من نام
عن صلاة أو نسيها فليُصلِّها إذا ذكرَها؛ ولكن ما معنى بِرِّ الوالدين؟ الجواب: البِرُّ
إسداء الخير الكثير إليهما، وذلك بالمال والبدن والجاه والعلم وغير ذلك، حتى الذي ينصح
والده أو يعلمه قد بَرَّ به؛ لكن استعمل الحكمة واللِّين واحترم مقامَه، ولا تقل: يا
رجل، اتَّق الله، وخَفْ ربَّكَ، كيف تعمل هذا العمل؟ فهذا لا يليق؛ لكن يقول كما قال
إبراهيم عليه الصلاة والسلام: "يا أبتِ" كلام لطيف؛ لأن مقام الوالد يجب
أن يكون مُحترمًا.
والحاصل: أن من بر الوالدين إسداء النصيحة لهما حتى وإن غضبا...
السؤال عن خير خصال الإسلام:
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، أيُّ الإسلام
أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده))؛ [متفق عليه].
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: ((تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَنْ عرَفْتَ
ومَنْ لم تعرِف))؛ [متفق عليه]. قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء رحمهم الله:
قوله: أي الإسلام خير؟ معناه: أي خصاله وأموره وأحواله، قالوا: إنما وقع اختلاف الجواب
في خير المسلمين لاختلاف حال السائلين والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى
إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهم، لما حصل من إهمالهما والتساهُل في أمورهما،
ونحو ذلك، وفي الموضع الآخر إلى الكفِّ عن إيذاء المسلمين، وقوله صلى الله عليه وسلم:
((من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده)) معناه: لم يُؤذِ مسلمًا بقول ولا فعل، وخصَّ اليد
بالذكر؛ لأن معظم الأفعال بها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَلِم المسلمون من
لسانه ويده))، قالوا معناه: المسلم الكامل، وليس المراد نفي أصل الإسلام عمَّنْ لم
يكن بهذه الصفة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: "أي الإسلام خير"،
التقدير: أي خصال الإسلام؟ وخصَّ هاتين الخصلتين بالذكر لمسيس الحاجة إليهما في ذلك
الوقت، لما كانوا فيه من الجهد، ولمصلحة التأليف، ويدلُّ على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام
حثَّ عليهما أول ما دخل المدينة، وبذل السلام يتضمَّن مكارم الأخلاق، والتواضُع، وعدم
الاحتقار، ويحصُل به التآلُفُ والتحابُّ.
السؤال عن أفضل الأعمال والعبادات:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سُئِل:
أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل
الله))، قيل: ثُمَّ ماذا؟ قال: ((حج مبرور))؛ [متفق عليه].
قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: ((حج مبرور))، قال شمر: هو الذي
لا يخالطه شيء من المأثم، وقال الحربي: إذا رجع مبرورًا مأجورًا، وقيل: المبرور: المتقبَّل،
قال الإمام النووي رحمه الله: وقول من قال: "المبرور المتقبل" قد يستشكل
من حيث إنه لا اطِّلاع على القبول، وجوابه: أنه قد قيل من علامات القبول أن يزداد بعده
خيرًا.
وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله وجهاد في سبيله))، قال: قلتُ: أيُّ الرقاب
أفضل؟ قال: ((أنْفَسُها عند أهلها وأكثرها ثمنًا))، قال: قلتُ: فإن لم أفعل؟ قال:
((تُعينُ ضائعًا أو تصنعُ لأخرق)) قال: قلتُ: يا رسول الله، أرأيت إن ضعُفْتُ عن بعض
العمل؟ قال: ((تكفُّ شرَّكَ عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك))؛ [متفق عليه].
قال الإمام النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنْفَسُها
عند أهلها)) فمعناه: أرفعها وأجودها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((تصنع لأخرق))، الأخرق:
هو الذي ليس بصانع.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذه الأحاديث فيها
بيان أن الأعمال مراتب في الفضل، وكلما كان أفضل، فهو أحَبُّ إلى الله عز وجل، وظاهر
هذه الأحاديث أن بعضها يُخالف الآخر، فقيل: إن هذا الخلاف باعتبار حال السائل؛ لأن
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعرف من حال السائل أن الأفضل في حقِّه كذا دون
كذا، ويبقى فضل العمل المطلق في الأحاديث الأخرى، وهذا أقربُ ما يكون.
وعن جابر رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت))؛ [أخرجه مسلم]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين
رحمه الله: ظاهر الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام سُئل عن أفضل الصلاة، وظاهر
الحديث العموم، يعني الصلاة في الليل وفي النهار، فقال: ((طول القنوت))، فما هو القنوت؟
هل هو القراءة أو الدعاء؟
الصواب: أنه يشمل هذا وهذا، وأن من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام
أن صلاته متناسبة، إن أطال في القيام، أطال في الركوع والسجود، والقعود، والرفع بعد
الركوع، وإن خفَّف خفَّف فيها كلها؛ لكن ليس المعنى أن الركوع يكون بقدر القراءة، والسجود
كذلك بقدر القراءة؛ بل القراءة لها طول خاص؛ لكن إذا طالت القراءة يطولُ الركوع والسجود.
وهذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، هل الأفضل إطالة القيام
الذي يتضمَّن قراءة كلام الله عز وجل، أو الأفضل إطالة الركوع والسجود، لما فيهما من
تعظيم الله عز وجل، وقرب العبد من ربِّه حال سجوده؟ ثم اختلفوا أيضًا: هل الأفضل تقصير
هذه الأشياء مع كثرة الركعات أو الأفضل طول هذه الأشياء مع قلة الركعات؟
والصواب: أن الأفضل ما يُناسب حالك، فقد يكون الإنسان عنده كسل،
فيكون المناسب لحاله أن يقصِّر القراءة، ويقصر الركوع والسجود، حتى تكثُر حركاته، ويزول
عنه النوم، وقد يكون الإنسان عنده نشاط، يستطيع أن يطيل القيام والركوع والسجود وهو
على نشاطه، ويرى أن هذا أخشع له، فنفضل ذلك على كثرة الركعات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: سُئل: أيُّ الصلاة أفضلُ
بعد المكتوبة؟ وأيُّ الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: ((أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة،
الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم))؛ [أخرجه مسلم].
قال الإمام النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصلاة
بعد الفريضة صلاة الليل))، فيه دليل لما اتفق العلماء عليه أن تطوُّع الليل أفضل من
تطوُّع النهار، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم))
تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم، وقد سبق الجواب عن إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من
صوم شعبان دون المحرَّم، وذكرنا فيه جوابين: أحدهما: لعله إنما علم فضله في آخر حياته،
والثاني: لعلَّه كان يعرض فيه أعذارٌ من سفر أو مرض أو غيرهما.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: قيل: إن أفضل الشهور أن يُصام
فيه شهر المحرَّم، وفي هذا نظر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان أكثر
من صيامه في المحرَّم، وقيل: إن المعنى أن تصوم الشهر كله، وهذا أيضًا فيه نظر؛ لأن
عائشة رضي الله عنها - وهي من أعلم الناس بحال النبي صلى الله عليه وسلم - تقول: ما
رأيتُه يصوم في شهر أكثر من صيامه في شعبان، وقيل: إن المعنى: أفضل صيام يصومه الإنسان
في شهر محرَّم؛ لكن لا يصومه كله، ولا يجعله كشعبان، فتكون السنة العمليَّة مُبيِّنة
للسُّنة القولية، وهذا هو أحسن ما أرى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أيُّ الصَّدَقة
أفضلُ؟ قال: ((جهد المقل، وابدأ بمن تعول))، وعنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، أي الصدقة
أعظم؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفقر، وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا
بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان))؛ [أخرجه أحمد].
السؤال عن خير الناس وأفضلهم:
عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول، أيُّ الناس
أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله))،
قالوا: ثم من؟ قال: ((مؤمن في شعب من الشعاب يتَّقي الله، ويدعُ الناس من شرِّه))،
وفي رواية: أيُّ الناس خير؟ [متفق عليه].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعين
عليه القيام به، ثم حصل هذه الفضيلة، وقال: وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة؛
لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام، فقد لا يفي هذا بهذا، وهو مقيد بوقوع
الفتن، وفي الحديث فضل الانفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك، وأما
اعتزال الناس أصلًا فقال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن، قال ابن عبدالبر: إنما أوردت
هذه الأحاديث بذكر الشعب والجبل؛ لأن ذلك في الأغلب يكون خاليًا من الناس، فكل موضع
يبعد على الناس فهو داخل في هذا المعنى.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: اختلف العلماء رحمهم
الله: أيهما أفضل: العزلة، أم الاختلاط بالناس؟
فقال بعضه العلماء: إن العزلة أفضل؛ لأنها أسلم لدين المرء.
وقال بعضهم: بل الاختلاط بالناس أفضل، لما يتوقع من أمر بمعروف،
ونهي عن منكر، ودعوة إلى الخير، وغير ذلك، والصحيح: أن الاختلاط بالناس أفضل؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظَمُ أجرًا
من المؤمن الذي لا يُخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم)) إلا إذا كان في الاختلاط شَرٌّ
على المرء في دينه، فحينئذٍ تكون العُزْلة خيرًا؛ لكنها مؤقتة، بمعنى: أنه إذا زالت
الموانع اختلط بالناس؛ لأن الاختلاط بالناس فيه خيرٌ؛ كالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر، ومعرفة أحوال الناس، والائتناس بهم، إلى غير ذلك من المصالح الكثيرة،
والعزلة ينطوي الإنسان فيها على نفسه، ورُبما ينفتح عليه في هذه العزلة أبواب لا يستطيع
سدَّها من الوساوس والتفكيرات السيئة حتى يذهب بذلك دينُه ودُنْياه.
وعن عبدالرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه قال: إن رجلًا
قال: يا رسول الله، أيُّ الناس خير؟ قال: ((من طال عمرُه وحسُن عملُه))؛ [أخرجه الترمذي]،
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الإنسان كلما طال عمرُه في طاعة الله
زاد قُرْبًا إلى الله، وزاد رفعةً في الآخرة؛ لأن كل عمل يعمله فيما زاد فيه عمره،
فهو يُقرِّبه إلى ربِّه عز وجل، فخيرُ الناس من وُفِّق لهذين الأمرين، أما طول العمر
فإنه من الله، وليس للإنسان فيه تصرُّف؛ لأن الأعمار بيد الله عز وجل، وأما حسن العمل،
فإن بإمكان الإنسان أن يحسن عمله؛ لأن الله تعالى جعل له عقلًا، وأنزل الكتب، وأرسل
الرسل، وبيَّن المحجَّة وأقام الحُجَّة، فكل إنسان يستطيع أن يعمل عملًا صالحًا، على
أن الإنسان إذا عمل عملًا صالحًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرَ أن بعض الأعمال
الصالحة سبب لطول العمر، وذلك مثل صلة الرَّحِم؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((مَنْ أحَبَّ أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصِلْ رَحِمَه))، وصِلة الرَّحِم
من أسباب طول العمر، فإذا كان خير الناس من طال عمره وحسُن عمله، فإنه ينبغي للإنسان
أن يسأل الله دائمًا أن يجعله ممن طال عمره، وحسُن عمله، من أجل أن يكون من خير الناس،
نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم ممن طال عمره وحسُن عمله، وحسُنت خاتمتُه وعاقبتُه، إنه
جواد كريم.
السؤال عن أكبر الذنوب وأعظمها عند الله؟
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ النبي صلى الله عليه
وسلم: أيُّ الذنب أعظَمُ عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله نِدًّا وهو خلَقَكَ))، قلت:
إن ذلك لعظيمٌ، ثمَّ أيُّ؟ قال: ((أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك))، قلتُ: ثمَّ أيُّ؟
قال: ((أن تُزاني حليلة جارِكَ))؛ [متفق عليه]، فابن مسعود رضي الله عنه، همَّتُه عالية،
فهو حريص على سؤال ما ينفعه في دُنْياه وآخرته، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن
أحبِّ الأعمال إلى الله، كما مرَّ في الحديث السابق، وهو في الحديث يسأل النبي صلى
الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ وهو يسأل عن العمل الذي يحبُّه الله عز
وجل ليعمله، ويسأل عن أعظم الذنب عند الله ليجتنبه.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: قوله: ((أن تجعل لله
نِدًّا وهو خَلَقَكَ))، هذا هو أعظم الذنب، إذ كيف تجعل للذي خلقَكَ وأوْجَدَكَ، ولم
يشاركه أحدٌ في إيجادِكَ، كيف تجعلُ له نِدًّا تتقرَّب إليه كما تتقرَّب إلى الله،
أو تستغيث به كما تستغيث بالله، أو ربما تعتقد أنه أبلغ في القُدْرة من الله عز وجل؟
وجعل النِّدِّ لله يشمل النِّدَّ في الدعاء، والنِّدَّ في الخَلْق،
والنِّدَّ في الصفة، فأما النِّدُّ في العبادة، فأن تُنذر لغير الله، أو تسجد لغير
الله، أو تركع لغير الله.
وأمَّا النِّدُّ في الدعاء، فأن تدعو غير الله عز وجل لكشف الضُّرِّ،
وجلب النفع، ولا يستثنى من ذلك الرسولُ ولا الوليُّ.
وأما النِّدُّ في الصفات فأن يجعل أوصاف الله تعالى كأوصاف خلقِهِ،
فيُمثِّل صفات الله بصفات خلقه، ويقول مثلًا: لله يد كأيدينا، أو وجه كوجوهنا، أو ما
أشبه ذلك.
قال الإمام النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أن تُزاني
حليلة جارِكَ))، هي زوجته سميت بذلك لكونها تحلُّ له، وقيل: لكونها تحلُّ معه، ومعنى
تُزاني؛ أي: تزنى بها برضاها، وذلك يتضمَّن الزنا، وإفسادها على زوجها، واستمالة قلبها
إلى الزاني، وذلك أفحَشُ، وهو مع امرأة الجار أشدُّ قُبْحًا، وأعظَمُ جُرْمًا؛ لأن
الجار يتوقَّع من جاره الذبَّ عنه، وعن حريمه، ويأمن بوائقه، ويطمئنُّ إليه، وقد أُمِر
بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه، مع تمكُّنه
منها على وجه لا يتمكَّن غيرُه منه، كان في غاية من القُبْح.
السؤال عن شيءٍ ينتفعُ به:
عن أبي برزة رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، علمني شيئًا
أنتفع به قال: ((اعزل الأذى عن طريق المسلمين))؛ [أخرجه مسلم] دلَّ الحديث على فضل
إزالة الأذى عن الطريق، وقد وردت أحاديث في فضل ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد رأيتُ رجَلًا يتقلَّبُ في الجنة في شجرة قطعها
من ظهر الطريق كانت تُؤذي الناس))؛ [أخرجه مسلم]. وفي رواية: ((إن شجرة كانت تُؤذي
المسلمين، فجاء رجل فقطعها، فدخل الجنة))، وفي رواية عند البخاري ومسلم: ((بينما رجل
يمشي بطريق وجد غصن شوك في الطريق، فأخَّره، فشكر الله له، فغفر له)).
قال الإمام النووي رحمه الله: هذه الأحاديث ظاهرة في فضل إزالة الأذى
عن الطريق سواء كان الأذى شجرة تُؤذي، أو غصن شوك، أو حجر يعثر به، أو أقذار، أو جيفة،
وغير ذلك، وإماطة الأذى عن الطريق من شُعَب الإيمان، وفيه التنبيه على فضيلة كل ما
نفع المسلمين، وأزال عنهم ضَرَرًا.
السؤال عن الأشياء التي تُشكل:
ذكر أهل العلم أن العلم خزائن، ومفاتيحها السؤال؛ ولهذا كان الصحابة
رضي الله عنهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عما يُشكل عليهم، فالسؤال يُقصد به
معرفة الشيء المسؤول عنه معرفة تامَّة.
عن ابن أبي مليكة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كانت لا
تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((من حُوسِب عُذِّب)) قالت: أو ليس يقول الله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا
يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 8]، فقال: ((ذلك العرض ولكن مَنْ نُوقِش الحساب عُذِّب))؛ [البخاري
ومسلم]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: في الحديث ما كان عند عائشة من الحرص على تفهُّم
معاني الحديث.
وعن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو ألا يدخل النار أحدٌ إن شاء الله تعالى
ممن شهد بدرًا والحديبية))، قالت: قُلتُ: يا رسول الله، أليس الله قد قال: ﴿ وَإِنْ
مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71] قال:
((ألم تسمعيه يقول: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا
جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]))؛ [ابن ماجه في السنن] فأُمُّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها
أشكل عليها ما سمِعَت من الرسول صلى الله عليه وسلم فسألت، فأوضَحَ لها ما أشكل عليها؛
قال الإمام السندي شارح سنن ابن ماجه رحمه الله: قوله: قال: ((ألم تسمعيه يقول...إلخ)
فالورود غير الدخول، وأهل الجنة لا دخول لهم.
قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: اختلف في معنى الورود،
فقيل: ورودها: حضورها للخلائق كلهم، حتى يحصل الانزعاج من كل أحد، ثم بعد ينجي الله
المتقين، وقيل: ورودها: دخولها وحضورها، فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا، وقيل: الورود:
هو المرور على الصراط، الذي هو على متن جهنم، فيمرُّ الناس على قدر أعمالهم، فمنهم
من يمرُّ؛ كلمح البصر، وكالريح، وكأجاويد الخيل، وكأجاويد الركاب، ومنهم مَنْ يسعى،
ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف فيلقى في النار، كُلٌّ بحسب
تقواه.
وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((انصر
أخاك ظالِمًا أو مظلومًا))، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالِمًا؟
قال: ((تأخذ فوق يديه))؛ [أخرجه البخاري].
أشكل على الصحابة رضي الله عنهم كيف ينصرون أخاهم إذا كان ظالِمًا،
فسألوا، فأوضح لهم الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك.
وعن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قُلتُ: ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ﴾ [النساء: 101]، وقد أمن الناس؟ قال: عجبتُ مما عجبت منه، فسألتُ رسول الله
عن ذلك فقال: ((صَدَقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته))؛ [أخرجه مسلم].
قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه أن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل
شيئًا يشكل عليه يسأله عنه والله أعلم.
وعن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه
وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوءٍ واحد، ومسَحَ على خُفَّيه، فقال له عمر: صنعت اليوم
شيئًا لم تكن تصنعُهُ قال: ((عمدًا صنعتُهُ يا عُمَرُ)) [أخرجه مسلم]، قال الإمام النووي
رحمه الله: وفي هذا الحديث جواز سؤال المفضول للفاضل عن بعض أعماله التي ظاهرها مخالفة
العادة؛ لأنها قد تكون عن نسيان فيرجع عنها، وقد تكون تعمُّدًا لمعنى خفي على المفضول،
فيستفيده، والله أعلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يا معشر النساء، تصدَّقْن، وأكثرْنَ من الاستغفار، فإني رأيتكن أكثرَ أهل النار))،
فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: ((تكثرن، وتكفرْنَ
العشير، وما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودينٍ أغلب لذي لُبٍّ منكنَّ))، قالت: يا رسول الله،
وما نقصان العقل والدين؟ قال: ((أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدلُ شهادة رجل، فهذا
نُقصان العقل، وتمكث الليالي ما تُصلِّي وتفطرُ في رمضان فهذا نقصان الدين))؛ [متفق
عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: جواز رفع الإشكال
بالسؤال عن سبب الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يُنكر على هذه المرأة
التي قالت: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟!
السؤال عن بر الوالدين بعد موتهما:
عن مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله،
هل بقي من بِرِّ أبويَّ شيءٌ أبرُّهما بعد موتهما؟ فقال: ((نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار
لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما))؛
[أخرجه أبو داود].
السؤال عن أمر يُعتصمُ به:
عن سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسول الله،
حدثني بأمر أعتصم به قال: ((قُل: ربي الله ثم استقم))، قلتُ: يا رسول الله، ما أخوف
ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: ((هذا))؛ [أخرجه أحمد].
السؤال عن أدعية وتعوذات:
عن شتير بن شكل، عن أبيه رضي الله عنه، قال: أتيتُ النبي صلى الله
عليه وسلم فقلتُ: يا رسول الله، علِّمني تعوُّذًا أتعوَّذُ به، قال: فأخذ بكفِّي، فقال:
((قُل: اللهم إني أعوذ بك من شرِّ سمعي، ومن شرِّ بصري، ومن شرِّ لساني، ومن شرِّ منيِّي))؛
يعني: فرجي؛ [أخرجه الترمذي].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر قال: يا رسول الله، مُرني
بشيءٍ أقوله إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قل: اللهم فاطر
السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت،
أعوذ بالله من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطان وشركه، قُلْها إذا أصبحت، وإذا أمسيتَ،
وإذا أخذت مضجعك))؛ [أخرجه الترمذي].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أيَّ
ليلةٍ ليلة القدر، ما أقُولُ فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفوٌّ كريمٌ تحبُّ العَفْوَ
فاعْفُ عني))؛ [أخرجه الترمذي].
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله،
علِّمني شيئًا أسأله الله عز وجل؟ قال: ((سل الله العافية))، فمكثتُ أيَّامًا، ثم جئت،
فقلتُ: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله؟ فقال لي: ((يا عباس، يا عم رسول الله،
سل الله العافية في الدنيا والآخرة))؛ [أخرجه الترمذي].
عن أبي مالك الأشجعي قال: حدثني أبي أنه سمِعَ رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: إذ أتاه الإنسان يقول: كيف يا رسول الله أقول حين أسأل ربي؟ قال:
((قُل: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني - وقبض أصابعه الأربع إلا الإبهام
- فإن هؤلاء يجمعن لك دُنياك وآخرتك))؛ [أخرجه أحمد].
اللهم اجعلنا ممن يسأل ليعمل، ووفِّقنا لحُسْن السؤال، وحُسْن العمل،
واجعل أعمالنا في رضاك.